يقترب، إن لم تحدث مفاجأة، السيد المالكي من ولاية ثانية، ولاية ليست كالسابقة فهي محفوفة بالمخاطر في كل لحظة من لحظاتها. مع بقاء احتمال أن ينصهر الفرقاء في بوتقة المصالح والانتشاء بالحصص لتختمر عجينة الحكومة مع الوقت و تطرح خبزها لفقراء العراق المنتظرين. وإن كان الشك كبيرا في تحقق مثل هذا التوقع المتفائل الذي ينص على نجاح الساسة في بناء ثقة مفقودة و ظهور شعور بالمسؤولية الوطنية المعدومة لديهم، لتكلل بوضع عربة العراق على سكة صحيحة ويتم بناء الدولة على أسس سليمة، بعد تخفيف حدة صراعاتهم وتضارب مصالحهم إلى أدنى درجة ممكنة .. نقول انه احتمال!
نجاح المالكي لم يكن صدفة بل جاء وفقا لأسباب طبيعية للغاية، فالمعركة السياسية بعد الانتخابات بدت بوضوح أنها صراع إرادات مرير، و قدرة على تحمل ضغوط المواجهة مهما قست الظروف، يمكن قراءه الوضع هنا كونه إرادة و إصرارا يضرب درسا في المواجهات السياسية و كيفية إدارة الأزمات و يمكن قراءتها كذلك على أنها تشبث أعمى بالسلطة بل ومرض واختلال نفسي لعين، كما يمكن الجمع بين الأمرين لأن قياس الأمور وفق المعيار الأخلاقي يختلف عن قياسها وفق معيار السياسة و عالمها المليء بالموبقات التي لا تنتهي.
بداية انتصار المالكي كانت بانقلاب موقف التيار الصدري، الذي قيل أنه موقف ثابت لن يتغير .. و قيل أن تغيره لن يسمح للمالكي بولاية جديدة، تغير موقف التيار تناهى إلينا قبل ثلاثة أسابيع من ظهوره للعلن، والحديث عن الضغوط الإيرانية الآن ليس له معنى، ذلك أن التيار لم يخرج عن مبادئ وقواعد اللعبة السياسية التي هي أوسع من أن تكون خاصة بالعراق فحسب، إلا وفق ذهنية التبسبط التي تسيطر على البعض. انقلاب موقف الصدريين حسم الأمور منذ لحظة إعلانه، فيما كابر المجلس الأعلى الإسلامي رافضا تجديد ولاية المالكي وحاول إيجاد تفاهم معقول مع العراقية، إلا أن الأخيرة أصرت على تحقيق شروط محددة وأعلن قياديون فيها أنه في حال تحقيقها فسيذهبون لتأييد السيد عادل عبد المهدي. إلا أن الشروط فيما يبدو كانت صعبة و محرجة للمجلس الأعلى، والمالكي من جهته كان يدرك تماما كيف يدير اللعبة و فهم الرجل – ونحن هنا نتحدث ضمن معطيات الواقع السياسي – نقاط ضعف الآخرين و حدود تنازلات بعضهم للبعض الآخر و الخلافات التي لا يمكن تجاوزها لمجرد التقائهم على رفضه. فيما أفاد كثيرا من جرعات الدعم الأمريكي و الإيراني ومن ثم السوري التي جاءت على شكل دفعات متساوقة حينا و متعاقبة حينا آخر. والتقى الأمريكان والإيرانيون أخيرا على قضية لم تكن في الحسبان. و برغم تغير اللهجة الأمريكية بعد تحالف المالكي مع الصدر – الذي يعتبر الآن أحد أكبر الرابحين للمناصب الحكومية - إلا أن ذلك لم يغير من واقع الأمر شيئا لأن المالكي تجاوز مرحلة كانت حرجة عبر دعم واشنطن و ثبات دعم طهران التي أحسنت فيما يبدو قراءة الواقع السياسي العراقي أكثر من واشنطن، و ساعد الموقف الكردي غير المتوقع في ممانعة الرغبة الأمريكية لتوضع العراقية في نهاية المطاف في زاوية حرجة ولم تجد سوى الخيار المتوقع وهو القبول ببعض المناصب التي تمنحها حضورا على الساحة، و لم يكن أحد في وارد التصديق بأنها ستنسحب من العملية السياسية أو تقبل بدور المعارضة. النتائج لم تكن مفاجئة، فقد بقيت أكثر القناعات رواجا على ما هي عليه وأبرزها:
صعوبة تحالف العراقية مع الأكراد.
استحالة إخراج ائتلاف دولة القانون من اللعبة السياسية وتجاهل وزنه.
تماسك ائتلاف المالكي و قوته في مقابل هشاشة الائتلافين الآخرين الوطني والعراقية.
استبعاد انسحاب بعض القوى السياسية الصغيرة و مقاومتها إغراء المناصب.
لا يمكن تجاوز التحاصص المكوناتي و رسوخ التوزيع الثلاثي للمناصب الرئاسية وفق استحقاقات ليست انتخابية.
استحالة الخلاص من التدخل الخارجي.
من الراجح الآن تشكيل الحكومة و منحها الثقة خلال شهر برئاسة نوري المالكي. لكن سلطة المالكي تقوضت بالقياس لما كانت عليه خلال ولايته الأولى. هذه الولاية ستكون فاصلا تاريخيا مهما، و ستتمخض عنها نتائج كثيرة متوقعة في المستقبل المنظور. و منها:
أولا\ زيادة التناقض والازدواجية في الخطاب والموقف الرسمي للحكومة خاصة مع احتلال صالح المطلق لمنصب وزير الخارجية كما نضحت عنه مشاورات الأمس واليوم.
ثانيا\ فعالية الدور الكردي وأهميته، فأي انقلاب في موقف الأكراد و ظهور خلافات لهم مع دولة القانون سيؤدي إلى الإطاحة بالمالكي، وليس أقله من الدخول في أزمة شبيهة بأزمة الأشهر الثمانية المنصرمة. و لعل الأمر مع الصدريين مشابه لذلك، خاصة وأن شروطا فيما يبدو عديدة قد تم الاتفاق عليها بلغت حد تغيير محافظي بعض المحافظات الجنوبية. و بالنسبة للأكراد ستكون قضية كركوك محورا مهما في تحديد خيارات تحالفاتهم أو خلافاتهم مع باقي القوى، أي استصحاب الطابع الذي حكم تحركاتهم أثناء تشكيل الحكومة نفسها.
ثالثا\ ازدياد حدة الصراع الخارجي على الساحة العراقية ولا سيما بين المحاور الإقليمية و الصراع الإيراني – الأمريكي، و ستكون معاهدة الإطار الاستراتيجي مع واشنطن فضلا عن اتفاقية سحب القوات و توقع رغبة أمريكا بإجراء تعديلات عليها اختبارا صعبا يزيد من حدة ذلك الصراع.
رابعا\ تشكيل مجلس جديد يفتقد للغطاء الدستوري بضمانات توفير مثل هذا الغطاء لاحقا تحت مسمى مجلس السياسات الإستراتيجية أو أي تسمية قريبة أخرى، هذا المجلس الذي يجب وفق التفاهمات الأولية أن يكون قراره ملزما في حال تصويت 80% من أعضائه سوف يؤدي إلى تقاطعات كبيرة و مؤثرة مع باقي مراكز القرار.
خامسا\ أما في حال تناغم هذا المجلس مع مصدر القرار التنفيذي فسيؤدي إلى خروج البرلمان و غياب دوره بشكل نهائي، فضلا عن عدم وجود أية معارضة تراقب و تحاسب السلطة التنفيذية.
سادسا\ ستشهد المرحلة اللاحقة صراعا خفيا متوقعا على مواقع النفوذ في عدد من الوزارات ولا سيما الأمنية. الأمر الذي سيلقي بظلاله على الأمن خاصة في العاصمة بغداد. وقد نشهد موجات اغتيال وتصفية لضباط كبار و قيادات أمنية كبيرة مصحوبة بتغييرات في مراكز القرار الأمني تكون محط خلاف و تجاذب.